في ذكرى ميلادي الأربعين

في ذكرى ميلادي الأربعين
كتب

كثيرًا ما فكّرت في هذه الليلة، ليلة بلوغي سنّ الأربعين،، وما سأفعله فيها،، وكيف سأقضيها،، ولكن لم يخطر في ذهني أبدًا أنني سأجلس للكتابة فيها؛ فقد خطر في ذهني أن أقوم بأشياء كثيرة، ويا للغرابة،، لم تكن الكتابة منها! وهذا ما يشعرني بالخوف قليلا وأنا أرى أصابعي تواصل نقراتها على لوحة المفاتيح بانسياب، ودون كثير تفكير.. فهل تجري الكتابة في دمي إلى الدرجة التي لا أستطيع أن أتوقف عنها حتى في مثل هذه الليلة؟!!

لن أتوقف عند ما خطّطتُ بالفعل للقيام به، بل عند ما لم أخطط له، لأنه هو ما أقوم به الآن.. فهل يُعقل أنني لا أجد لنفسي مكانًا أكثر تعبيرًا عني غير هذا المكان –أي أمام شاشة الحاسوب-، ومن موقعي ككاتبة؟!

ربما من حق نفسي  عليّ أن أحتفي بها في ليلة بلوغي سن الأربعين كما أحب –في لا وعيي- أن أعرِف نفسي، وأعرِّف بها.. أي من خلال الكتابة.. وهذا ما أفعله حاليا، على أساس أن الكتابة عندي ليست مجرد فعل أجوف، يتم فيه التعامل مع شاشة ولوحة مفاتيح، بل إنها عملية تختصر حياة بأكملها، وتقدم على صفحات كانت بيضاء -قبل “فعل الكتابة” هذا- أربعين عامًا أجد نفسي اليوم وقد التفتّ إليها التفات الفاحص والمتأمل،، التفات المتسائل،، التفات شخص كان يقوم بفعل ما لفترة طويلة، ويريد أن يعرف الآن جدوى قيامه بذلك الأمر!!

لم يسبق لي أن توقفت هكذا عند ليلة ميلادي من قبل، لم يسبق لي أن تأملتُ سنوات حياتي هكذا،، ربما لأن عمر الأربعين يمثل محطة مميزة من الناحية البدنية والعقلية؛ فقد أكدت الدراسات الحديثة أن نمو الدماغ يستمر حتى الأربعينات من عمر الإنسان، وهو يلتقي إلى حد كبير مع قوله –تعالى-: {حتى إذا بلغ أشدَّه، وبلغ أربعين سنة، قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك}. لن أقف كثيرًا عند الدراسات والحقائق العلمية، فهذا ليس وقتها، ولكنه حتمًا وقت الشكر.. وأنا أرغب في أن أؤدي شكري كما ينبغي له أن يُؤدَّى.. كما أنه قد يكون وقتَ التأمل في العمر الذي مضى، وقياس درجة الرضى.

في ذكرى ميلادي الأربعين..

أتلفتّ حولي، فأجد أنني قد مررتُ بالكثير من المحطات الحياتية التي شكلت شخصيتي، وجعلتني “أنا” التي هي “أنا” الآن،، مع أنني في تلك الأوقات كنت مرشحة –بحسب الظروف- لأن أكون تلك، أو تلك.. لأن أكون –باختصار- غير ما أنا عليه اليوم، إلا أنها الاختيارات –أكثر منها الظروف- هي التي تجعلنا نكون “أنفسنا”!

محطات الحياة كثيرة، استطعتُ أن أمرّ على بعضها بالطريقة التي اخترتُها، ونجحت في ذلك، ولكني فشلتُ في بعضها الآخر، إلا أن معظم تلك المحطات الفاشلة كان في ثناياها خير خبيء، اختاره الله لي.

اعترافي بالفشل لا يضيرني؛ فقد كان في أوقات كثيرة دافعًا لي للمزيد من التقدم،، لأن أواصل المحاولة حتى أصل،، لأن أعبرّ عن نفسي وأسمِع صوتي، لأن أقول لمن حولي أنا أريد.. وأحيانا.. لا أريد!

وأنا أ كمل اليوم سنواتي الأربعين،،،

أجد أنني بدأتُ حياتي المهنية أستاذة جامعية، باختياري، ولكني اليوم، وبعد قضاء أكثر من عقد في التعليم الجامعي أدير مؤسسة للنشر والإنتاج خاصة بي، باختياري أيضا،، وهذا واحد من الاختيارات التي لم أندم عليها، ولا أظن أنني سأندم، لأنني وجدتُ أن حياة أفضل كانت تنتظرني على الصعيد العملي والشخصي.. ربما أكون قد انتبهتُ إليها متأخرة إلى حد ما، لكن هذا أفضل من عدم الانتباه إطلاقا! فالحمد لله، والشكر لله..

وأنا أكمل اليوم سنواتي الأربعين،،،

أجد أنني بدأتُ حياتي البحثية في أثناء دراستي الجامعية، وأبهرتُ أساتذتي بمستوى الأبحاث التي كنت أقدمها وأنا طالبة، وكان بعضهم يظنّ أنني أنقلها من “مصدر” ما، ولم يكن يدرك أنني أكاد أواصل الليل بالنهار في مكتبة الجامعة، وأنا أنقل طرفي ما بين مصادرها ومراجعها، وأراسل القاصي والداني كي أحصل على مرجع قد يضيف لبحثي معلومة جديدة، وإن كانت بسيطة، حبًّا وعشقًا للبحث العلمي.

وبسبب هذا الحب والعشق أكملتُ دراساتي العليا، وحصلت على الدكتوراة في وقت قياسي جدا، وحصلتُ على جوائز محلية وعربية في البحث العلمي تحديدًا، به عُرفتُ، وبه أحب أن أُعرَفَ دائما وأبدًا في حياتي، وأن أُذكَر به بعد مماتي!!

وها أنذا اليوم قد كرّستُ اسمي في فضاء النقد والبلاغة بنزعة تجديدية أميل إليها فطريًا، وفي ميدان الأدب التفاعلي حيث أُعَدّ من أعلامه المؤسسين عربيًا، وهذا أكثر مما كنتُ أطمح وأتمنى،، وقد بلغني غير مرة أن مؤلفاتي تُدرَّس في عدد من المدارس والجامعات العربية شرقًا وغربًا.. فلله الحمد من قبل ومن بعد!

وأنا أكمل اليوم سنواتي الأربعين،،،

أعود إلى الوراء سنوات طويلة، وأذكر أنني قد حاولتُ تعلم الرسم، وبدأتُ بالفعل في الرسم على الورق والزجاج وغيرهما، لكني فشلتُ في ذلك.. خصوصًا مع ثناء الجميع على أفكار اللوحات، أكثر من ثنائهم على الجانب الفني فيها!! ولم أدرك حينها أن هذا مؤشر إلى أن قيمتي الحقيقية تكمن في عقلي وفكري.. !!

وأذكر أنني جربتُ أن أكون شاعرة،،، وكنت طيلة دراستي الجامعية شاعرة القسم، لكني لم أجد نفسي في الشعر وبحوره وقوافيه.. فتركته لمن هو أهل له.. ويمكن أن أعترف بأني فشلتُ في أن أكون شاعرة أيضا.. على الرغم من ثناء من حولي على سلامة اللغة، وجمال الأفكار، وسلاسة الأسلوب، لكني لم أجد نفسي في الشعر أيضا!!

وأذكر أيضا أنني حاولت تعلم العزف على البيانو، وسجّلتُ في عدة دورات في أثناء دراستي في عمّان الجميلة، ولكني لم أكمل أيًا منها، ثم حاولت وسجلت دورة في مدينة العين وأكملتها، إلا أنني خرجت بالقليل منها فقط، فقد كانت تتطلب المتابعة في تسجيل الدورات، وهو ما كان يحتاج وقتًا أكثر مما كنتُ أملكه، لذلك ضحيت بهذه الرغبة الدفينة لصالح أبحاثي وعملي في الجامعة.. وهذه عبارة منمقة بديلة عن اعترافي الذي لا بد منه، وهو أنني فشلتُ في تعلم العزف على البيانو أيضا، لكني لستُ يائسة، فأنا أذكر أن إدوارد سعيد تعلم العزف على البيانو في سن متأخرة!!

وأخيرًا،، أذكر أنني حاولت تعلم العزف على الأورغ، وعلى الرغم من أنني لم أسجل أي دورات فيه، إلا أنني تمكنتُ من العزف –سماعيًا- بدرجة مقبولة عليه.. وهذا ما عوضني عن رغبتي الأبدية في العزف على البيانو! ومنه تعلمت أن أزِن إيقاع خطواتي، وحركاتي، وسكناتي، وأن أعرف مواضع الكلام ومواضع الصمت، وأن أعرف متى يحسن البدء بالكلام، ومتى يحسن الرد.. ومتى يكون تزامن صوتين بالكلام زقزقة متناغمة، ومتى يكون ذلك نشازًا يجدر بنا أن نوقفه.. لقد منحني تعلم العزف على الأورغ أشياء كثيرة أكثر مما منحته من وقتي،، فلله الحمد والشكر أيضا

كما أنني اكتشفت في نفسي كاتبةً لقصص الأطفال ومؤلفةً لكتبهم التعليمية، فقدمت لهم ما يبدو كثيرًا وأراه قليلا، وما أزال أطمح لأن أقدم لهم الأكثر عددًا ونوعًا وابتكارًا، ما امتدّ العمر، وأسعفت الصحة بإذن الله.

وأنا أكمل اليوم سنواتي الأربعين،،،

أجد أنني أملك بعض المال، وبعض الممتلكات التي تختلف قيمتها باختلاف الناس ومستوياتهم.. فمنهم من يراها ثمينة، ومنها من يراها بسيطة القيمة،، وبعبارة أخرى، يمكن أن يصنفني البعض في خانة الأغنياء، والبعض الآخر في خانة الفقراء، قياسا لما أملك بما يملكون،، لكن الأهم من كل هذا هو كيف أصنّف نفسي اليوم، دون أن أقيس نفسي أو ما لدي على أحد؟؟

لا شك أنني أحمد الله كثيرًا على قناعتي بأنني غنية جدا، ليس بما أملكه من ماديات، بل لأنني أملك حبًا خالصًا من أشخاص يحبوني لنفسي، وليس لأي سبب آخر قد يختلف باختلاف البشر أيضا.. والحمد لله على كل شيء..

وأنا أكمل اليوم سنواتي الأربعين،،،

لا أستطيع ألا أفكر في الأشخاص/ الأصدقاء الذين كانوا في حياتي قبل سنوات قريبة أو بعيدة، وأنا أمعن النظر في قائمة الأصدقاء اليوم.. لا شك أن القائمة متقلصة جداجدا.. ولا شك أيضا أن الأمر مؤلم جدا جدا، خصوصًا حين يبلغ المرء عمر الأربعين، وهو يبحث عن أصدقاء حقيقيين، لكن الأكثر إيلامًا هو الاستمرار في عدّ البعض أصدقاء،،،، مع وقف التنفيذ!! لذلك فقد وصلت إلى قناعة بأن خروج البعض من حياتنا أفضل مكسب نحصل عليه، لأننا نحصل بعد ذلك على راحة البال.. ويبقى الباب الذي يخرج  منه البعض مفتوحًا، ليدخل منه آخرون، نسمح لهم بأن يتقدموا بتوجس.. إلى أن تثبت الأيام أنهم الأشخاص المناسبون في المكان المناسب، حتى يصلوا القلب وسويداءه، فيطؤوه أهلا، وينزلوا فيه سهلا، وهذا حال الحياة.. فحمدًا لله وشكرا أيضًا..

وكي يكون الختام مسكًا،،، ولا بد من المسك وأنا أحتفل اليوم بذكرى ميلادي الأربعين،،،

ألتفت حولي، فأجد رجلاً جميلَ الخَلْق والخُلُق يقاسمني أوقاتي وأيامي، يشاركني آلامي وأحلامي، نبتسم معًا في وجه الحياة الوردي، ونقف معًا أمام وجهها الأسود،، أحيانًا يغضب مني، وأحيانًا أغضب منه، لكن الثابت والدائم هو أن أيًّا منا لا يستطيع أن يفكر في نفسه خارج دائرة الآخر،، مع ترك مساحة حرة للآخر كي يتنفس هواءه كما يحب.. ومع أننا بدأنا حياتنا المشتركة من ست سنوات فقط، إلا أنها من أجمل السنوات التي عرّفتني بنفسي أكثر، وجعلتني أكثر ثقة وإيمانًا بذاتي وقدراتي، ومنحتني أغلى ما أملك وإياه.. طفلتين هما ضحكة الدنيا إن كان للدنيا فم يضحك، وبالتأكيد لها فم يضحك شفتاه سما وماريا!!

وبهذه السطور أكون قد أتممتُ اليوم سنواتي الأربعين.. وأنا أشعر بكل الرضى 

بقلم: د. فاطمة البريكي

الإنتقال السريع
×
×

السلة

دردش معنا